القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الأخبار [LastPost]



يا ربِّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّد       أَحْمَد حَبِيبِي ضِيَا العُيُونِ
نحن أحوج ما نكون يا إخواني إلى الصلاة على سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمن الذي نحن فيه، فقد كثرت المشكلات، وزادت المعضلات، وانتشرت الآفات وكست الظلمات، ولا مخرج لنا منها إلا بنور الله وحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ليخرجنا -كما أخرج العرب وغير العرب - من الظلمات إلى النور. فهو صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة الذي يخرج الناس من كل الظلمات إلى نور الله عزَّ وجلَّ.
ومع اختلاف الظلمات يكون اختلاف التوجهات النورانية المحمدية الموجهة للقضاء على هذه الظلمات، وهذا سر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
(128التوبة). فهو صلى الله عليه وسلم حريص على إخراجنا من كل مشكلة، وحريص على نجاتنا من كل معضلة، وحريص على حمايتنا عند كل كارثة مذهلة، لكن علينا أن نقدِّم الطلب لله أننا نريد أن يخرجنا سيِّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما نتعرض له في هذه الحياة، ومما نخاف منه يوم لقاء الله. والطلب الذي نقدمه له ما هو؟
يا ربِّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّد       أَحْمَد حَبِيبِي ضِيَا العُيُونِ
وهذا الطلب يا إخواني لا يرد، بل إن الاستمارة المعتمدة في الملأ الأعلى، والنموذج الذي يعرض الإنسان فيه حاله على الله، والذي ينزل من السجل النبوي الإلهي، ما هو؟ لما وجد صلى الله عليه وسلم رجلاً يكتب الطلب، وبهذا الطلب يدعو الله عزَّ وجلَّ مباشرة، نادى عليه سيدنا ومولانا رسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا هذا أخطأت طريقة كتابة هذا الطلب ليست هكذا، فنظر إليه الرجل طويلاً فقال صلى الله عليه وسلم مستأنفًا الكلام: (إذا أردت أن تدعو الله عزَّ وجلَّ فابدأ بالصلاة عليَّ، ثم اذكر حاجتك، واختم بالصلاة عليَّ، فإن الله عزَّ وجلَّ يَقْبَلُ الصلاة عليَّ وهو أكرم من أن يدع ما بينهما).
إذن النموذج المحمدي لعرض الحال على الله؛ والذي يريد عرض حاله على الله ويستجيب له الله ماذا يفعل؟ يبدأ بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يذكر حاجته - إن كانت حاجة من حاجات الدنيا، أو حاجة من حاجات الآخرة - ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الختام يتوجه إلى الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ يَقْبَلُ الصلاة التي في البداية والصلاة التي في النهاية، لأنه آلى على نفسه ألا يَرُدَّ صلاةً على حبيبه ومصطفاه مهما كان حال قائلها، إلا إذا كان يقولها على هيئة السخرية والاستهزاء، وهذا والعياذ بالله يتعرض لأشد البلاء، لكن إذا كان يقولها عبادة له، وتوجها إلى حضرة الله، فإن الله يَقْبَلُهَا بلا شك:
أَدِمْ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ           فَقَبـُــــــــــــولُهَا حَتْـــمٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
أَعْمَـالُنَا بَيْنَ القَبُــــــــــولِ وَرَدِّهَـا           إلاَّ الصلاةَ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
لأن أي عمل آخر لابد فيه مع قول اللسان من حضور القلب، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله دعاءً مِنْ قَلْبٍ لاهٍ) (رواه الترمذي في مسنده والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه). و(لاهٍ) يعني: مشغول، والذي يدعو الله سواء في الصلاة أو خارج الصلاة وهو مشغول في المصالح، أو في البيت، أو مع الأولاد أو غيره، لا يقبل الله منه هذا الدعاء، ولا يقبل الله الذكر لحضرته عزَّ وجلَّ إلاَّ إذا كان عن حضور قلب، ولا يقبل تلاوة القرآن إلا إذا كانت عن طهارة ظاهرة وباطنة للحنان المنان.
لكن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقبولة على كل حال، فهي الصلاة التي لم يشترط لها الله طهارة في بدايتها, والصلاة التي نصليها لله لا تنفع بغير وضوء، فلابد للإنسان أن يتوضأ قبلها ويتطهر قبلها لله عزَّ وجلَّ، لكن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم جائزة على أي حال، وتَصِحُّ على أي وضع، لأن الله عزَّ وجلَّ قال في شأنها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (56الأحزاب). وسلِّمُوا بما وراء ذلك من علم الله عزَّ وجلَّ. فأي عمل يحتاج الإنسان أن يقبله منه الله، لابد أن يبدأه بالصلاة على رسول الله، ويختمه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حَقِيقَةُ الصَّلاةِ عَلَيْهِ
ولماذا طلب منا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبدأ بالصلاة عليه ونختم بالصلاة عليه؟ لنستحضر كيف كان يتضرع ويرفع العمل لله؟ ونحن نصلي عليه في بداية كل عمل لنستحضر كيف كان صلى الله عليه وسلم يعمل هذا العمل ويرفعه إلى حضرة الله عزَّ وجلَّ، فالذي يدخل المسجد ويدعو بدعاء رسول الله ويقول: (اللهم افتح لنا أبواب رحمتك) (رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده والترمذي في سننه والدرامي عن فاطمة)، قبلها يصلي على النبيِّ، وبعدها يصلي على النبيِّ، وعندما يدخل يقول: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعدها يقول: (اللهم افتح لنا أبواب رحمتك)، وبعدها وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وهكذا في كل أمر، يبدأ الإنسان فيه بالصلاة على رسول الله، وينهي هذا الأمر بالصلاة على رسول الله، حتى المجالس حينما نبدأ المجالس بالصلاة والتسليم عليه لنستحضر أدبه في الجلوس، وكيفية نطقه أثناء الحديث، وأدبه في معاملة الجليس، ونستحضر قسمات وجهه عندما يتوجه بالمؤانسة للجليس، وهذه الأشياء كلها نستحضرها في المجلس، وبعدما ينتهي المجلس نصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم في مجلس ثم قاموا بغير ذكر الله أو الصلاة عليَّ إلا وقاموا على أنتن من جيفة حمار) (أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه)، لماذا؟ لأنهم لا يعرفون الآداب المطلوبة في المجالس، والتي كان يصنعها ويفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن عندما نصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية كل عمل، لا يعني ذلك أن نقول: (بسم الله)، وبعدها نقول: (والصلاة والسلام عليك يا رسول الله) فقط، وإنما نستحضر كيف كان يمشي؟ وكيف كان ينظر إلى الأرض، أو ينظر إلى السماء، ويمينًا وشمالاً؟ فنجد أن وصفه - كما يقول الواصفون: (جُلّ نَظَرِهِ المُلاحَظَة) (الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير عن الحسن بن عليٍ رضي الله عنهما )، أي يراقب من حوله ويتفقدهم، وكان يطيل الصمت ليتفكر في مخلوقات الله عزَّ وجل، وكان متواصل الأحزان لأن الدنيا ليس فيها شيء يطرف عينه فيفرح به عن الله عزَّ وجلَّ، وكان يديم النظر إلى الأرض ولا ينظر إلى السماء إلا لماماً.
بركة الأعمال والأقوال
وهكذا عندما يجلس الإنسان، وعندما يمشي الإنسان، وعندما ينام الإنسان، حتى في الموت علمنا عند الموت عندما نضع الميت في القبر نقول: (بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لنجعله ينام كما علَّمنا رسول الله، وعندما نغسِّله نبدأ بـ (بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهكذا - يا إخواني - المعلم عندما يبدأ الدرس لابد أن يبدأ بـ (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله)، ليستحضر الكيفية التي كان يدرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والهيئة التي كان يعلِّم بها أصحابه.
والطبيب عندما يجري عملية يبدأ بـ (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله)، وكذلك الذي ينظر في الصحيفة يبدأ بـ (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله)، والسائق الذي يقود السيارة كذلك يبدأ بـ (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله). حتى الذي يلبس الحذاء ينبغي أن يقول قبل أن يضع رجله في الحذاء: (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله)، لماذا؟ ليستحضر، وحتى لبس الحذاء فيه استحضار!! طبعاً، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الحذاء على حالته، وفي ذات يوم أراد أن يلبسه فجاء طائر عظيم الهيئة فخطفه بمنقاره وطار به في عنان السماء، ثم قلبه فنزل منه ثعبان أسود سام جدًا، ثم أنزله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلَّمنا وعلَّم أصحابه الهيئة التي نلبس بها الحذاء فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حذاءه حتى ينفضه) (الطبراني في الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه)، فالإنسان عندما يلبسه يتذكر فينفضه تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن - يا إخواني - نحن محتاجون إلى أن نتأسى بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حركاتنا وسكناتنا، لأنه حتى الأمور العادية لو تأسينا فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم تصير أموراً تعبدية، فهي أمور عادية لكن الأسوة فيها برسول الله تجعلها عبادة تُقَرِّبُ الإنسان إلى حضرة الله. يعني مثلا: كلنا ننظر في المرآة مرارًا وتكراراً، ويمكن النساء أكثر، لكن لو أن الإنسان ينظر في المرآة وقال ما قال رسول الله: (بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهُمَّ كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي) (رواه أحمد في مسنده وبن حبان في صحيحه وأبو يعلي في مسنده عن بن مسعود رضي الله عنه)، أصبح النظر في المرآة عبادة، وهذا دعاء، وآخر الدعاء يقول: وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا الدعاء لو نظر الإنسان منا في المرآة ويقوله يستجيب له الله عزَّ وجلَّ، لماذا؟ لأنه لو نظر للمرآة بغير هذا الدعاء ممكن يصاب بالغرور، وعندما يغرُّ يضرُّ، فقد ينظر إلى شكله وينظر إلى تقاطيع وجهه، أو المرأة تنظر إلى ملامحها وتنظر إلى مفاتنها، أو إلى شعرها، ثم تظن أنها على شيء، وأن هذا يرجع إلى مهارتها، أو يرجع إلى شطارتها أو غيره، لكن عندما يذكر الدعاء يعرف أن هذه الخِلْقَة وهذه الصنعة الفضل فيها لله، والشكر فيها لله، فإنه عزَّ وجلَّ خَلَقَنَا كما يريد، لا كما نحن نريد، ولم يخيِّر واحداً فينا في ملامحه وتقاطيع وجهه، فعندما يبني المرء بيتاً ليس له مثيل، إلى من يرجع الفضل في بناء هذا البيت؟ لصاحب المال أو البنَّاء؟ الفضل لاشك للبنَّاء الذي بناه، لأن مهارته هي التي صنعت هذا البناء، وليس للذي دفع التكلفة والمال. كذلك الفضل يرجع لله عزَّ وجلَّ.
فإذا كان الإنسان جميل الصورة فليتذكر قول الله: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء (6آل عمران)، هو الذي صوَّره، وإذا كان جميل العينين يتذكر قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8البلد)، وإذا كان جميل الفم واللسان يتذكر قوله سبحانه: ﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9البلد)، وهكذا كلما ينظر إلى شيء يعجبه في صورته يتذكر الخالق فيشكره على ما تفضل به عليه، وعلى ما جمَّله به من كمال الهيئة ومن جمال الصورة، فيكون ناسباً هذه الصورة الجميلة لله عزَّ وجلًّ، شاكرًا له سبحانه على ما حباه به من جمال الطلعة ومن جمال الحلية، فيسجد بين يدي الله بهذه الصورة البهيَّة التي خلقها وكمَّلها الله عزَّ وجلَّ، فيحفظه الله عزَّ وجلَّ من داء العُجْبِ ومرض الغرور، ومعظم مشاكل الناس في هذه الحياة سببها الغرور، ومتى يصاب المرء بالغرور؟
عندما يعتقد أن هذه الأشياء مِلْكُهُ وهو الذي صوَّرها، وهو الذي صنعها، وهو الذي خلقها، وهو الذي حسَّنها، حتى أنك تسمع كثيراً من النساء يتجاوزون الحدود في ذلك!! فتقول إحداهن للأخرى مشيرة إلى ابنها الجميل، أو ابنتها الجميلة: (أنتم تعرفوا تجيبوا واحدة مثل هذه) وهل هم الذين جاءوا بها؟!! مَنْ الذي جاء بها؟ الله عزَّ وجلَّ، ومن الذي أعطى؟ الله عزَّ وجلَّ، والله عزَّ وجلَّ هو الذي يعطي وهو الذي يحفظ، وهذه مهمة ثانية، هو أعطى صحيح لكن لو لم يحفظ تصير مشكلة كبيرة، فقد أعطاني العينين لكن إذا لم يتوكل لي بحفظ العينين فإن الضرر سيلحقني لا مفرَّ، وأنا أريد الحفيظ يحفظ لي جمال العينين، ويحفظ لي نور العينين، ويحفظ لي بهاء العينين، وكذا في الأذنين، وكذا في الصورة، وكذا في العقل، وكذا في كل شيء أعطاني الله عزَّ وجلَّ.
إذن المؤمن عندما ينظر في الصورة - كما كان صلى الله عليه وسلم ينظر في المرآة - ينسب الفضل والجمال والنعمة والكمال كلها لمن؟ لله عزَّ وجلَّ، ويفتش بعد ذلك الحساب على ماذا يا رب؟ يا ترى على الصورة؟ لا، لأنه هو الذي صوَّرها. على اللون؟ لا، لأنه هو الذي صبغ: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138البقرة). هذا اللون والصبغة بضاعته، وهي من أول الولادة حتى الموت، وهي تحافظ على نفس النِّسَبِ التي تظهر بها لوني، فلو تغيَّرت النِّسَبُ لحظة نسرع إلى طبيب الأمراض الجلدية، وربما لا يستطيع أن يصنع شيئاً.
فهو الذي أعطى جمال الصورة، وهو الذي أعطى تناسق اللون، حتى يمكن نرى إنساناً أسود لكن شكله جميل!! لماذا؟ لأن تناسق العليِّ الكبير أعطى له شكلاً جميلاً!! وإنساناً أبيض شديد البياض، وشكله ليس جميلاً، لماذا؟ تلك أمور يختص بها العليُّ الكبير عزَّ وجلَّ. صحيح المعمل في بطن الأم، لكن أين الأم التي تستطيع أن تتحكم في خطوات ذلك المعمل؟ كي نقول لها: تقدري تجيبي واحدة مثل هذه، من الذي يحدِّد ويتحكم في المعمل؟ الله عزَّ وجلَّ.
والعلم الحديث - مع التقدم الذي وصلت إليه الهندسة الوراثية - لن يقدر على تغيير في خَلْقٍ إلا بأمر الله، وبتقدير الله، وبتدبير الله عزَّ وجلَّ، وكل شيء يتدخلون فيه يفسدوه!! فلا يوجد شيء يتدخل فيه الإنسان ليعارض به أو يغيِّر به خلق الله أو قدرة الله إلا وأفسد، فإذا أراد أن يغيِّر البشرة، أو يغيِّر الهيئة، أو يغيِّر الصورة يفسدها، وهكذا أيُّ شيء يتدخل فيه الإنسان ليغيِّر طبيعة الله وتصوير الله وتدبير الله فإنه يفسده؛ لأن الله عزَّ وجلَّ وضع - بأنامله الإلهية، وأقداره الربانية، ومعالمه النورانية، وقدراته اللانهائية - هذه الهيئة الإنسانية التي تعجز كل المعامل البشرية عن إيجاد شريحة واحدة في جلد إنسان على الهيئة التي كونها الحنَّان المنَّان عزَّ وجلَّ. شريحة واحدة، أو نقطة واحدة في جسم إنسان - ظاهرة أو باطنة - اختل فيها مصنع الأنسجة الإلهية وتغيرت عن بقية الإنسان، هل تقدر معامل الوجود كلُّه أن تجعلها تتناسب مع بقية المصنع الإلهي، مصنع الأنسجة الإلهية، إلا إذا أراد الله، وإلا إذا شاء الله عزَّ وجلَّ.
سِرُّ جَمَالِ صُورَةِ البقاء
فالإنسان إذا نظر إلى جمال هيئته وتفصيل صورته في المرآة، يحمد الله أنه جعل لونه مليحا،ً وشكله مقبولاً وجميلاً، وهيئته حسنة، ويرفع الأمر إلى الله أن يُحَسِّنَ له ما به ينال حسن هذه الصورة يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ، لأن الصورة ليست دائمة، لأنها يوم القيامة تكون الصورة على حسب السريرة. الصورة هنا - لأنها دار ابتلاء - على حسب عطاء الله وتقدير الله وفضل الله عزَّ وجلَّ، لكن الهيئة والصورة يوم لقاء الله على حسب سريرة العبد فيما بينه وبين الله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (106آل عمران)، ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ (60الزمر).
الذين يكذبون على الله، والذين يكذبون على رسول الله، والذين يكذبون على أهل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، فهذه خصلة، أو هذه بلوى، أو هذا داء انتشر في عصرنا، وهذه هي المصيبة يا إخواني، وهذا الوباء الذي انتشر في عصرنا هذا ما سببه؟ أي لماذا نكذب؟ أحياناً بسبب حب المال، وآونة من أجل إنسان مثلنا لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا ضراً ولا نفعاً، وآونة أخرى لأن الإنسان قد يكون خائفاً من الإحراج، وربما لأن الإنسان يطمع في شيء دنيوي - وقد لا يحصل عليه - وجائز يكذب ويكذب في سلسلة طويلة من أجل حاجة قليلة، وفي النهاية لا ينالها، ويظل عليه في كذبه الذي يعرض به على الله فيسود وجهه يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ. فالمؤمنون يقولون: يا ربِّ كما أحسنت هذه الصورة هنا، نتضرع إليك أن تكون هذه الصورة جميلة هناك: (اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي) (رواه أحمد في مسنده وبن حبان في صحيحه وأبو يعلي في مسنده عن بن مسعود رضي الله عنه)، لماذا؟ لأن الأمر يوم القيامة على الخُلُق!!
يُبعث الناس يوم القيامة لا على هيئاتهم ولا على صورهم ولا على ألوانهم، وإنما على أخلاقهم وعلى أعمالهم يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (107آل عمران). ما الذي يبيض وجوهنا هناك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (تأتي أمتي يوم القيامة غُرًّا - والغرَّة نور أعلى الوجه - محجلين من أثر الوضوء) (البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه). هذا النور يكون في الوجه وفي اليدين وفي الرجلين وفي الذراعين، والنور يكون على حسب عمل الإنسان، لذا فأقلهم يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (أقل المؤمنين نورًا من يضيء له نوره إبهام قدميه) (رواه الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: "حَتَّى يَكُونَ رَجُلًا يُعْطَى نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ"). أي على قدر أصبعه الأكبر، وهناك من الناس من يضيء حُسنه لأهل الموقف كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، من أين هذا الحسن؟ من العمل.
وأهل النفاق يوم القيامة وجوههم مسودة: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ (13الحديد)، أعطونا قبساً من نوركم كي نمشي على ضوئكم، فيقولون: ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ (13الحديد). أي هذا النور جاء من الدنيا، لأنه نور الأعمال الصالحة.
ولذا يا إخواني ينبغي على كل واحد منا أن ينظر إلى النهاية، ويطلب من الله أن يتم نوره فيظهره بين يدي حضرة المعبود، وهذا هو الذي فيه الفضل يوم اللقاء المشهود أمام الخلائق أجمعين.
إذا الوُجُوهُ خَلَتْ مِنْ نُورِ سَجْدَتِهَا       لَمْ تَسْتَحِقْ غَدَاةَ المَوْتِ أَكْفَاناً
فالوجوه التي خلت من نور السجود ونور الصلاح ونور الوضوء، ولو كانت لواحدة من الإفرنج ( أهل الغرب) ملوك الجمال وملكات الجمال، لكن عند الموت لا تستحق حتى الكفن الذي نكفنها به، لأنها ماتت عن ذكر الله، فأصبحت في نظر الله جيفة عفنة ولها عذاب شديد يوم لقاء الله عزَّ وجلَّ، والقلوب المشغولة بالدنيا، والمشغولة بالمشاكل، والمشغولة بالتطلعات، والمشغولة بالتبرج، والمشغولة بزينة الحياة الدنيا، والمشغولة بالتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد، ونسمع منهم ما نسمع من الجماعة الجاهلين التفاخر بالأموال والأحساب والأجسام والأنساب.
إذَا القُلُوبُ خَلَتْ مِنْ ذِكْرِ خَالِقِهَا       فَهِيَ الصُّخُورُ التِي رُكِّبَتْ أَبْدَاناً
صارت كالصخور في الأبدان، لأن الفقر يوم القيامة - يا إخواني - في الأعمال الصالحة والبضاعة الرابحة، التي هي الأخلاق الكريمة التي نرجو الله عزَّ وجلَّ أن يكرمنا بها، وأن يعيننا على إحيائها في هذا الزمان، لأن يوم القيامة ستكون المنازل الكريمة لمن؟ ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (33الزمر). الجماعة الصادقون في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وسلوكهم مع الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الذين لهم الوجاهة هناك.
وفي الصداقات: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (67الزخرف). وذلك إذا كانت الصداقة لدنيا أو لمنفعة أو لمأرب أو لمصلحة، أما الصداقة الباقية فلمن؟: ﴿الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67الزخرف). ماذا يقول لهم المولى عزَّ وجلَّ؟ ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68الزخرف). أنتم الذين لكم الوجاهة، وأنتم الذين لكم الهيئة، وأنتم الذين لكم المقام العالي عندنا.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يكرمنا بمتابعة سيدنا ومولانا رسول الله، وأن يرزقنا الحُبَّ الخالص لوجهه الكريم، وأن يوفقنا للعمل الخالص الذي ينفعنا يوم لقائه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
******************


reaction:

تعليقات