القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الأخبار [LastPost]

أثرُ الإيمان في استقرارِ الفردِ والمجتمع

إحياءُ العشرِ وأثرُ الإيمان في استقرارِ الفردِ والمجتمع - خطبة جمعة لفضيلة الشيخ فوزي محمد أبوزيد
-------------------------------
الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم لك الحمد على ما وفقتنا إليه من الصيام والقيام، وعلى ما ألهمتنا به من طاعتك سبحانك، وعلى ما حفظتنا به سبحانك من المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ونسألك اللهم أن تتقبل منا صيامنا وقيامنا، وركوعنا وسجودنا، وأن تزكي صيامنا بزكاة فطرنا، إنك ربُّ الخير على كل شئ قدير، وبالإجابة جدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعزَّ هذه الأمة بالقرآن، واختار لها هذا الكتاب، واختار له النبي الأواب، واختار له خير أزمان العام: } شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ { (185-البقرة(، وأكرم هذه الأمة بالقرآن، فجعل الخير يسح عليهم سحاً ببركة القرآن، والفضل يتنزل عليهم من الله بفضل القرآن،
وجعل عزَّهم في عملهم بالقرآن، وهوانهم في تباعدهم عن تعاليم القرآن.
سبحانه .. سبحانه، أنزل القرآن مهيمناً على كل شئ، وقال في حقه: } لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا { (49-الكهف).، كما نسأله سبحانه أن يوفقنا لتلاوة القرآن، وللعمل بالقرآن، وأن يتفضل علينا بمنح القرآن في شهر القرآن.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله، طهَّر الله قلبه لنزول كتابه، وعلمه من لدنه علماً ليخاطب به أحبابه، فصلوات الله وسلامه على النَّبيِّ الأمِّي الذي أعجز العلماء، وتسليمات الله عزَّ وجل على الشفيع الأعظم حتى للرسل والأنبياء، سيدنا ومولانا محمد، وآله وأصحابه، وكل من اهتدى بهداه إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبعد..
فيا أيها الأخوة المؤمنون: أوشكت الدورة الرمضانية القرآنية على الانتهاء، ومضى ثلثا أيامها ولم يبق إلا ثلثها، وهذا الثلث الأخير هو الذي عليه المعول إن شاء الله.
هذه الدورة جعلها الله عزَّ وجل لنا معشر المسلمين صحَّة لأجسامنا، وتطهيراً لنفوسنا، وعلوًّا بمكارم أخلاقنا، وصفاءاً لأرواحنا، وزيادة قرب في مقامات القرب عند حضرة ربِّنا عزَّ وجل.
فالصيام نعمة للأجسام، لأنه عمرة يصلح فيها خالق الأجسام ما انتاب هذا الجسم من الأمراض والأسقام، فإذا دخل الجسم ورشة الصيام، أصلح الملك العلام ما أصابه من خلل في الأنسجة، ومن ضعف في الخلايا، ومن ضيق في الأوردة والشرايين، ويصبح المسلم وقد خرج من شهر الصيام، وقد أصبح جسمه كله قوة وبركة من الله عزَّ وجل.
ثم هو يصلح النفوس، فينهاها عن الغي والقبيح، ويأمرها بانتهاج سنة رسول الله، والعمل بما يرضي الله من الأخلاق الإيمانية، ومن الشمائل المحمدية، حتى إذا أرادت أن تستفز صاحبها للغضب، أو تجعله يثور لأتفه الأسباب، أو يرتكب ما يخالف منهج الله، أو ما يجعله لا يتابع منهج رسول الله، يعطيها المسكِّن الذي وصفه رسول الله فيقول: { اللهم إني امرؤ صائم. اللهم إني امرؤ صائم. اللهم إني امرؤ صائم }[2].
ولو بحثنا في دنيا الناس، لا نجد مدرسة أخلاقية تصبغ طلابها على الأخلاق المرضية، وعلى الأحوال العلية، وعلى المناهل المحمدية، إلا مدرسة الصيام - إذا اتبع طلابها منهج المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام. فيخرج المسلم منه وقد أصلح المعوَّج من أخلاقه، ومتن بنيان عاداته وتقاليده على وفق كتاب الله، وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقبل على قاموس أخلاقه ويمحو منه الغضب، ويمحو منه البذاءة، ويمحو منه سفاسف الأخلاق، ولا يبقى فيه إلا البشاشة والعفو، والتواضع والكرم والجود، والود والصبر والرحمة، وفي ذلك ورد الأثر: { إن الله يحب من خلقه من كان على خلقه }.
ثم الصيام بعد ذلك هو الفرصة التي نرتقي فيها في الدرجات الباقية، ونأخذ فيها الأوسمة الدائمة من حضرة الدائم عزَّ وجل. فهو شهر تكريم للمؤمنين، يتفضل ربُّ العالمين على الصائمين فيمنحهم من القرآن منحاً تختلف بحسب أعمالهم، وعلى وفق مجهودهم في طاعة ربهم عزَّ وجل.
ولذا كان رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم إذا حضر هذا اليوم - وهو اليوم العشرون من شهر رمضان - يوقظ أهله، ويجدُّ ويشدُّ المئزر، ويحيي الليل كله. لماذا؟ ترقباً لليلة القدر، وانتظاراً لخالص الأجر، ورغبة في التكريم من المولى العظيم عزَّ وجل، فإن الله كرم الصائمين لشهر رمضان في تكريم عام وفي تكريم خاص.
أما التكريم العام فذلك يتم في الحفل العام في يوم العيد، ولذا سماه رسولكم الكريم: يوم الجائزة. فهو اليوم الذي توزع فيه الجوائز على الصائمين، وتوزع فيه الأوسمة والنياشين على القائمين، والتالين، والذاكرين لرب العالمين عزَّ وجل.
وأقل وسام يحصل عليه مسلم من المسلمين - صام هذا الشهر الكريم - هو وسام المغفرة من الغفار عزَّ وجل. فيأخذ وساماً من ملك الملوك: أن هذا العبد قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه، صغيره وكبيره، سرُّه وعلانيته، عمده وخطأه، ما دام قد التزم بمنهج الله بالصيام في شهر الصيام، وتابع خير الأنام صلى الله عليه وسلم.
ولذا حذر نبيُّكم الكريم الذي لا يحصل على هذه المنزلة، والذي لا ينال هذا الشرف فقال: { مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ }[3]. فالذي يدرك الشهر ويمر عليه ويحرم من المغفرة من الغفار، هو البعيد عن الله عزَّ وجل. ويقول محذراً أيضاً: {هذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَ، يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، بُعْدَاً لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، إِذَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِيهِ فَمَتىٰ؟}[4]. أي متى يغفر له؟
وهذا شهر الغفران، وقد نوَّع الله فيه أبواب المغفرة. فالصائم يأخذ وسام المغفرة، والقائم يأخذ وسام المغفرة، والذي فطَّر صائماً - ولو على تمرة - يأخذ وسام المغفرة، والذي يفعل فيه الخير لعباد الله يأخذ وسام المغفرة. وقد جعل الله أبواب المغفرة في هذا الشهر كثيرة ومتنوعة، لأنه يريد أن يكرم عباده المؤمنين، لأنه من أجلكم سمى نفسه العزيز الغفار.
فإذا كان يوم العيد ووزع وسام المغفرة على المؤمنين فقال في خطابه العام الذي تنشره وكالة الأنباء النورانية العلوية، وبلغنا بما يدور فيه حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال:
{فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ، سُميَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْجَائِزَةِ، فَإِذَا كَانَ غَدَاةُ الْفِطْرِ –يعني: صباح يوم العيد - يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالى مَلاَئِكَةً فِي كُل الْبِلاَدِ، فَيَهْبِطُونَ إِلى للأَرْضِ، وَيَقُومُونَ عَلى أَفْوَاهِ السكَكِ، فَيُنَادُونَ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ إِلاَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ، فَيَقُولُونَ: يَا أُمَّةَ أَحْمَدَ اخْرُجُوا إِلى رَبٍّ كَرِيمٍ، يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَيَغْفِرُ الْعَظِيمَ.
فَإِذَا بَرَزُوا فِي مُصَلاَّهُمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لِلْمَلاَئِكَةِ: يَا مَلاَئِكَتي مَا جِزَاءُ الأَجِيرِ إِذَا عَمِلَ عَمَلَهُ؟ فَيَقُولُونَ: جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى أَجْرَهُ، فَيَقُولُ: فَإِني أُشْهِدُكُمْ أَني جَعَلْتُ ثَوَابَهُمْ مِنْ صِيَامِهِمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِمْ، رِضَائي وَمَغْفِرَتي.
وَيَقُولُ: يَا عِبَادِي سَلُوني. فَوَعِزَّتي وَجَلاَلِي لاَ تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئاً فِي جَمْعِكُمْ لآخِرَتِكُمْ إِلاَّ أَعْطَيْتُكُمْ، وَلاَ لِدُنْيَاكُمْ إِلاَّ نَظَرْتُ لَكُمْ. وَعِزَّتي لأَسْتُرَنَّ عَلَيْكُمْ عَثَرَاتِكُمْ مَا رَاقَبْتُمُونِي. وَعِزَّتي لاَ أُخْزِيكُمْ وَلاَ أَفْضَحُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُدُودِ. انْصَرِفُوا مَغْفُوراً لَكُمْ، قَدْ أَرْضَيْتُمُوني وَرَضَيْتُ عَنْكُمْ.
فَتَفْرحُ المَلاَئِكَةُ وَتَسْتَبْشِرُ بِمَا يُعْطِي اللَّهُ تَعَالى هذِهِ الأُمَّةَ إِذَا أَفْطَرُوا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ}[5] 
فينصرفون بوسام المغفرة، ويوضع لكل فرد منكم وسام المغفرة في ملفه الذي يجهز للدار الآخرة، فإذا برز لربِّ العالمين، أخذ كتابه باليمين، ويقول على رءوس الخلائق أجمعين: } هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ. إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ {، فتقول الملائكة: } فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ {، ويقول المولى عزَّ وجل: } كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ { (19 - 24الحاقة).
أما أصحاب العزم الأكيد من المؤمنين، وأصحاب الهمَّة العالية من الموحدين - وقد قال سيدنا على رضى الله عنه وكرَّم الله وجهه: {علو الهمة من الإيمان}[6]، فلم يرضوا بوسام الغفران، وقالوا في أنفسهم: إذا كان الله قد غفر لنا ما مضى، فما الذي يضمن لنا ما بقى؟ لعلنا نفعل كذا، لعلنا نلتفت، لعلنا نغفل، إذاً نريد وساماً أعلى. ما هو؟ وسام العتق من النيران، نريد وساماً مكتوب عليه براءة لفلان بن فلان من النيران.
هذا الوسام يمنحه الملك العلام لمائة ألف في كل ليلة من ليالي شهررمضان، فإذا كانت ليلة الجمعة يمنح فيها أوسمة بالعتق من النيران بعدد ما منح في سائر الأسبوع وأكثر، فإن كشوف العتق تصدر كل ساعة من الدواوين الإلهية. فإذا كانت ليلة العيد منح فيها أوسمة بالعتق من النيران بعدد ما منح في الكشوف في سائر الشهر، قال صلى الله عليه وسلم: { للّهِ تَعَالى فِي كُل لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الإِفْطَارِ أَلْفُ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ أَعْتَقَ فِي كُل سَاعَةٍ مِنْهَا أَلْفَ أَلْفِ عَتِيقِ مِنَ النَّارِ، كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ فَإِذَا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالى فِي ذٰلِكَ الْيَوْمِ بِعَددِ مَا أَعْتَقَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلى آخِرِهِ }[7].
والذي يأخذ وسام العتق من النيران قد صدق عليه قول الحنان المنان: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ { (185-آل عمران). تزحزح عن النار، وغلقت أمامه أبواب النار، وضمن دخول الجنة مع الأبرار.
وقد كان هذا الوسام ينزل ظاهراً جليًّا حسيًّا على بعض العباد المقربين، فقد كان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وأرضاه، يجتهد في طاعة الله في ليلة من اليالى المباركات، ولما رفع رأسه من صلاته .. {وجد رقعة خضرآء، قد اتصل نورُها بالسماء، مكتوب فيها: هذه برآءةٌ من النار، من الملك العزيز لعبده عمر بن عبد العزيز}[8]. فأمسك بالوريقة، ووضعها في صندوق خاص، ووصى بنيه بأن يجعلوها في أكفانه يوم يلقى الله عزَّ وجل..
وهذا الوسام يناله كثير من الأنام، بشرط أن يخلصوا النيَّة في الصيام، وأن يجعلوا عملهم خالصاً للملك العلام عزَّ وجل. لا يريدون بذلك رياءاً ولا سمعة، ولا يريدون بذلك علوًّا في الأرض بغير الحقّ، وإنما يمتثلون لقول الحقّ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }الكهف110
هذا عن الحفل العام...
أما المبرَّزين من المؤمنين، والمتفوقين من المسلمين، والصفوة البررة من المتقين، فيقيم لهم ربُّ العالمين حفلاً خاصاً، لا يحضره إلاَّ هؤلاء الخواص. أي لا يحضره إلا من جاءته الدعوة من أحكم الحاكمين على يدي الملائكة المقربين، فهم ينزلون في ليلة هذا الحفل يوزعون كروت الدعوة على المطلوبين، لتلقى التكريم من رب العالمين: } تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ { (4-5القدر).
وهؤلاء القوم قالوا: حتى لو أخذنا شهادة البراءة من النار، فقد قال الصديق الأكبر: {لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة}. ماذا تريدون بعد ذلك؟ قالوا: نريد البشرى بدخول الجنة من الله، إما على يدي ملائكة الله، وإما شفاهةً من رسول الله، وإما سماعاً من حضرة الله عزَّ وجل. لأن هذه البشرى هي الأمان، وهي التي يقول فيها الحنان المنان: {أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (82-الأنعام).
وقد بشَّر الرسول الكريم - كما تعلمون - كثيراً من أصحابه بالجنة. واعلموا علم اليقين، أن المبشرين بالجنة ليس الأشخاص الذين بشَّرهم رسول الله في زمانه فقط، لكن البشرى ممتدة إلى قيام الساعة. ففي كل زمان، وفي كل عصر وأوان، هناك أناس يبشِّرهم الله بالجنة، ويكشف لهم عن مقاعدهم في الجنة.
فهذا أبو علي الرُّوزْباري رضى الله عنه - وكان من الصالحين - عندما حانت وفاته، التفت إلى أخته بجواره وقال: يا أختاه أرى أبواب السموات وقد فتحت، وأرى الجنات وقد زيِّنت، وأسمع منادياً يقول: (يا أبا علي: أَبْشرِْ، فقد بلَّغناك المنزلة العليا في الجنة، وإن لم تكن تريدها). ثم خرجت روحه على الفور للقاء الله عزَّ وجل.
فالتبشير في كل زمان ومكان، والمجتهدون في طاعة الله تبشِّرهم ملائكة الله، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: { فَإِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالى جِبْرِيلَ فَيَهْبِطُ فِي كَبْكَبَةٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلى الأَرْضِ، وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرُ فَيُرْكِزُهُ عَلى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، مِنْهَا جَنَاحَانِ لاَ يَنْشُرُهُمَا إِلاَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَيَنْشُرُهُمَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَيُجَاوِزَانِ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَيَبُثُّ جِبْرِيلُ المَلاَئِكَةَ فِي هذِهِ الأُمَّةِ، فَيُسَلمُونَ عَلى كُل قَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وُمُصَلَ وَذَاكِرٍ، وَيُصَافِحُونَهُمْ وَيُؤَمنُونَ عَلى دُعَائِهِمْ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ }[9]
هؤلاء ياإخونى يتلقون البشرى من عمَّال المدرسة الإلهية، من عمَّال الجنة، من خزنة الجنة، لكن المبرزين أكثر وأكثر يصافحهم ناظر الجنة، يصافحهم رسول ربِّ العالمين، إما مناماً وإما يقظة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ بِي }[10] وقال صلى الله عليه وسلم: { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ }[11].
في هذه الليلة، يكرم الله المبرزين من الأمة، ويبشرهم لأن الله في خطاب التكليف النبوي قال له صلى الله عليه وسلم: } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {، ليس في زمانه فقط، ولكن المؤمنين في زمانه وبعد زمانه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، } وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا { (45:47- الأحزاب). يبشرهم بما لهم عند الله، يبشرهم بمنزلتهم في الجنة ودرجاتهم في الآخرة، فيعلم الواحد منهم علم اليقين، ما جهَّزه الله له في جنة النعيم، وما أعده الله له في حفل التكريم يوم الدين.
منهم: من يأخذ تذكرة للجلوس على الأرائك } عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ. خِتَامُهُ مِسْكٌ { (23،24- المطففين). ومنهم من يأخذ شهادة تقدير، يجلس بها على منبر من نور قدام عرش الرحمن يوم القيامة. ومنهم من يأخذ تذكرة دخول وجلوس إلى المقصورة الخاصة تحت ظل عرش الرحمن، يوم لا ظل إلا ظله. ومنهم من يأخذ كرتاً من رسول الله بأن يشفع في عدد مخصوص من عباد الله عزَّ وجل. منهم من يشفع في سبعين، ومنهم من يشفع في عشرة، ومنهم من يزيد على ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: {التائب حبيب الرحمن، والتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ}[12]. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يوفق الطائعين لنعيم مناجاته، ليفتح لهم كنوز فضله وخزائن هباته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، باسط العطاء لأهل الصفاء والاجتباء. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، إمام الرسل والأنبياء. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وأهِّلنا للصفاء، وامنحنا الاجتباء يا ربَّ العالمين. (أما بعد).
إخواني وأحبابي: لقد كان دأب نبيكم صلى الله عليه وسلم في هذه العشر على الاعتكاف. ومعناه: حبس النفس على عبادة الله في بيت الله عزَّ وجل، فلا يجوز إلا في مسجد تؤدى به الجمعة والجماعات، وهذا شرطه الأول. وشرطه الثاني: أن يكون على طهارة. وأما وقته فأقله لحظة، وأجره يقول صلى الله عليه وسلم فيه: {من اعتكف قدر فواق ناقة -أي حلب ناقة- كتب له ثواب حجتين تامتين مقبولتين، وعمرتين تامتين مقبولتين}[13]. وأما الشرط الثالث: فلا يتكلم ولا ينشغل بشئ غير طاعة الله عزَّ وجل وعبادته، فلا يشغل نفسه أثناء الاعتكاف إلا بشئ يرضي الله عزَّ وجل، أو بطاعة الله عزَّ وجل.
وأظن هذا شئ يسير وأجر كبير من العلي الكبير عزَّ وجل، فنستطيع جميعاً إذا دخلنا المسجد في كل وقت من الأوقات، أن نبادر ولو بدقائق قبل الوقت لنأخذ فضيلة المبادرة إلى الوقت، ونأخذ فضيلة أجر الاعتكاف، ثم ننوي الاعتكاف، وننشغل هذه اللحظات بطاعة الله عزَّ وجل. ما أجمل هذا الدين الذي يسَّره الله لعباده، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج.
هذا للأقوياء الذين ليس عندهم هموم تتعلق بالأولاد، أو مشاغل حكومية، أو وظيفية تتعلق بمصالح العباد، ويستطيعون أن يأخذوا إجازة رسمية ويعتكفون في بيت الله، بشرط أن يكونوا قد كفوا أبناءهم وأزواجهم كل ما يحتاجون إليه في تلك الفترة، فذلك العمل الذي ليس له مثيل، وذلك الأجر الكبير من العلي الكبير عز وجل.
أما الذي يزوِّغ من عمله، أو يتعمد الغياب، ويترك مصالح الناس معطلة، ولا يوجد من يقوم بها ليعتكف بين يدي الله، فهذا لا ينفع يا عباد الله. إن أساس هذا الدين هو المطعم الحلال. والمطعم الحلال هو الذي يراقب صاحبه وقت العمل وطبيعة العمل، ويشغل وقت العمل في إرضاء الله عزَّ وجل. لا يحسب ملاليم، ولا ينظر إلى من حوله، وإنما حسبه أن ينال رضاء الله عزَّ وجل بإخلاصه في عمله ابتغاء وجه الله عزَّ وجل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الله يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ}[14].
أما أبناؤنا الطلبة فخير اعتكاف لهم هو العكوف على كتب العلم للاستذكار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَاباً مِنَ الْعِلْمِ، عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ}[15]. فعليهم أن يجعلوا ليالي رمضان ليالي استذكار، وينوون في استذكارهم نفع أنفسهم ونفع الأمة المحمدية بهذا العلم، سواء في الطبِّ أو في الهندسة أو في غيرها من المجالات، فنحن - جماعة المسلمين - نحتاج إلى مجهود الجميع، الذين يتحصنون بكتاب الله، ويراقبون الله ويخشونه. فلا تتركوا هذه السنَّة الحميدة، سنَّة الاعتكاف وكلٌّ على قدره.
واستوصوا بهذه الأيام خيراً، ولا تضيعوها في لهو ولا لعب، فإن من ضيَّع نفساً فيها في غير طاعة الله، يأتي يوم القيامة ويقول كما قال الله: } يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ { (56-الزمر).
نسأل الله عزَّ وجل أن يوفقنا للعمل الصالح والعلم الرافع.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، وركوعنا وسجودنا. اللهم وفقنا لتلاوة القرآن، وفهمنا علوم القرآن، وارزقنا أسرار القرآن يا رب العالمين.
اللهم اغفر لعبادك المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات يا رب العالمين.
اللهم ارحم عبادك المؤمنين ورخص أقواتهم وأسعار حاصلاتهم، يا رب العالمين.
اللهم اجعل عبادك المؤمنين متآلفين متكاتفين متعاونين، وانزع الغل والحقد والحسد من قلوبهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا أمة واحدة، وارفع شأننا، وأعلِ قدرنا، وأدم صلاحنا، وتجعل بأسنا بيننا، واجعل الدولة على من عادانا يا رب العالمين.
اللهم وفق قادة المسلمين للعمل يشريعتك، ولتنفيذ سنة خير أحبابك، وخذ بناصيتهم إلى الخير يا رب العالمين.
اللهم احفظ أولادنا وأزواجنا من فتن هذا الزمان، وحصنهم بالسنة والقرآن، واجعلهم قائمين بالفرائض، متابعين لهدى رسول الله، وارزقهم رزقاً حلالاً موسعاً فيه يا رب العالمين.
عباد الله، اتقوا الله: } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { (90- النحل).
*************************
[1] كانت هذه الخطبة بمحافظة القاهرة يوم الجمعة 19 من رمضان 1413هـ الموافق 12/3/1993م.
[2] رواه أمد والنسائي وأبو يعلى عن أبي هريرة.
[3] صحيح ابن حبان
[4] رواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.
[5] رواه ابن حبان والبيهقي عن ابن عباس.
[6] مرقاة المفاتيح لملا على القارى، وتفسير حقى وتفسير نور الأذهان لإسماعيل البروسوى
[7] رواه ابن ماجة والبزار عن جابر.
[8] تفسير حقي وروح البيان وتفسير نور الأذهان لإسماعيل البروسوى
[9] هب،كر عن ابن عباس
[10] رواه أحمد عن أبي هريرة.
[11] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
[12] أخرجه ابن ماجة عن ابن مسعود والديلمي عن أنس وابن عباس والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري.
[13] رواه الطبراني والبيهقي عن الحسين بن علي.
[14] رواه أبو يعلى وابن حبان وابن عساكر عن عائشة.
[15] رواه ابن ماجة بإسناد حسن عن أبي ذر.
اضغط على الرابط لقراءة وتحميل خطب الجمعة في جميع المناسبات

reaction:

تعليقات