وقفة مع النَّفس في مطلع العام الهجري .
لكل مؤمن هجرة في مناسبة الهجرة وهجرة المؤمن في هذه المناسبة الكريمة هي في قوله صلى الله عليه وسلم :
{المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمؤمن من آمن جاره بوائقه [يعني شروره وآثامه] والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه } [ متفقٌ عليه ].
فالمؤمن في نهاية عام وبداية عام جديد لابد له من وقفة مع نفسه يقلّب صفحات العام الماضي أمام عينيه فما وجد فيها من عمل حسن شكر الله عزَّ وجلَّ عليه وسأله أن يزيده منه ، وما وجد فيه من عمل فيه إثم أو زور أو غفلة أو جهالة ، سواء كان عن قصد أو عن غير قصد تاب إلى الله عزَّ وجلَّ منه وسأله أن يسعه بواسع مغفرته وشامل رحمته سبحانه وتعالى .
ولذلك كان دأب السلف الصالح - رضوان الله عليهم - أن يجعلوا اليوم الأخير من العام كله للتوبة والاستغفار مما مضى من الذنوب والآثام.
فلا تكل ألسنتهم من الاستغفار وتقف أفئدتهم وقلوبهم على باب التواب الغفار تسأله بقلوب منكسرة وأبدان خاشعة غفران ما مضى والعفو عما سلف ، ويضرعون إليه أن يوفقهم فيما بقى من الأوقات والأيام والأنفاس .
وكانوا يحرصون أن تكون نهاية العام خير وبدايته خير ،فتطوى صحف العام الماضي بالأعمال الصالحة فيجعلون الليلة الختامية للعام مع الله في كتاب الله ، أو في عبادة واردة في كتاب الله أو مأثورة عن سيدنا رسول الله ،
أو على الأقل يغلقون ألسنتهم في هذه الليلة عن الخنا والفجور وقول الزور واللغو فضلاً عن الغيبة والنميمة وما شابه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا } [ رواه ابن حبان ] .
فإذا ختم العام بخير لعل الله يأتي على ما فيه من ذنوب وسيئات فيمحوها بل ربما يبدلها كما قال عز شأنه بحسنات : { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ { (70-الفرقان).
وقد قال صلى الله عليه وسلم حديثاً عظيماً وأصلاً كريماً وعملاً سهلاً يسيراً على كل مؤمن فقال صلى الله عليه وسلم :
{ إذا قال العبد المؤمن لا إله إلا الله ذهبت إلى صحيفته فمحت كل سيئة تقابلها حتى تجد حسنة تقف بجوارها } [ أبويعلى في مسنده ].
يعنى ما بينها وبين العمل الصالح المسجل في صحيفتك تمحوه أي أن لا إله إلا الله تمحو ما قبلها من الخطايا ويفتتحون هذا العام بالصيام لقوله صلى الله عليه وسلم : {أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللّهِ الْمُحَرَّمُ } [ أحمد في مسنده ].
أما الهجرة التي يهاجرونها : فإن كل مؤمن في هذا العام الجديد يراجع نفسه ويطابق أوصاف نفسه على ما ورد عن الحبيب المختار صلى الله عليه وسلم ، من ناحية الأخلاق والعبادات والعادات والمعاملات .
فإن وجد في نفسه خلقاً لا يتطابق مع الشمائل المحمدية هجره وكان في ذلك هجرته وانتقل إلى الأفضل والأعظم ، بمعنى إذا وجد في نفسه شيئاً من الكبر ومن صفات الحبيب صلى الله عليه وسلم التواضع هجر الكبر وسارع إلى التخلق بالتواضع لله عزَّ وجلَّ ويحثه على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
{ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: «إِنَّ الله جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ : بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } [ رواه مسلم ] .
[ يعني عدم الاعتراف بالحق مع التلبس بالباطل يعني يرى الإنسان نفسه مخطئاً ولا يعترف بخطئه ويصر أنه على صواب ] لأن الاعتراف بالحق فضيلة .
وهذا مرض قد شاع وانتشر في عصرنا وزماننا.. فإن المرء يعرف ويتيقن أنه على خطأ ولكنه يكابر ويجادل ويرفض الاعتراف بذلك وليس هذا من شرع الله ولا من دين الله في قليل أو كثير بل هو كما نعى على أهله الله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } { (206-البقرة) .
لأن المؤمن يعترف بخطئه ولو كان مع طفل صغير فضلاً عن امرأة أو صبي أو أخ أو مسلم مهما كان شأنه فإن الاعتراف بالخطأ يمحو الضغينة في قلوب الآخرين ويستل الحقد من قلوب الآخرين لأن اعتراف الإنسان يكون بمثابة غسيل لقلوب الآخرين : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } { [ 47-الحجر ] .
وكذا إن كان يجد في نفسه غلظة بدَّلها بالشفقة والرحمة، وجعل قدوته قول الله: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } { (159-آل عمران).
وإن وجد في نفسه شحاً عالجه بالكرم المحمدي، وإن وجد في نفسه عَجَلَةً عالج ذلك بالحلم النبوي. وهكذا ينظر في أخلاقه، ويقيسها بشمائل وصفات وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلو في ذلك - بعمله لا بلسانه - قول الله عزَّ وجلّ: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } { (21-الأحزاب). وقس على ذلك بقية الشمائل والأخلاق.
ثم ينتقل إلى عباداته، فإن وجد في عباداته تكاسلاً أو تراخياً، أو قلة إخبات وخشوع وخضوع، رجع إلى نفسه ليصلح من شأنه.
فإن وجد نفسه يصلي الصبح بعد شروق الشمس، فَلْيَبْكِ بدل الدمع دماً، وإذا وجد أن نفسه لا تتأسف على ذلك، ولا تحزن على ذلك - فإن الذي يستيقظ من نومه بعد الشمس ولا يجد في قلبه لوماً، ولا توبيخاً، ولا تعنيفاً لنفسه - فقد سقط من عين الله عزَّ وجلّ، لأن من عَظَّمَهُ الله جعله يعظم فرائضه، ومن سقط من عين الله عزَّ وجلّ جعله يتكاسل ويتراخى عن فرائضه. وقد وصف بذلك المنافقين فقال: { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً { (142-النساء). وقال صلى الله عليه وسلم: { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعُونَهُمَا } [ الطبراني في الكبير ].
وقال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( أتى علينا وقت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يتخلف عن صلاة الجماعة في وقتها إلا منافق ظاهر النفاق) .
فيتخلص من أمثال هذه العادات .
فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد
تعليقات
إرسال تعليق